شجاعة الجعليين_د.مصطفى مبارك
في ذلك الزمن البعيد ، كان عدد اطباء الحكومة قليلا ، لدرجة ان ( البصير)في بعض المناطق كان اكثر نفوذا وثراءا من العمدة نفسه والامر الذي يجعلنا نحكي هذه الحكاية ، ليس الصراع بين العمدة و البصير بل شجاعة الجعليين وفروسيتهم التي طبقت الافاق فبجانب عنادهم الصارم ، فان الواحد منهم يتحول لي اللحظات الحرجة الي صخرة لا تتزحزح حتي ولو كان الموت يفتح له ذراعيه .
هكذا كان (الفاضل ود عمسيب) عندما اصابت رجلة الغرغرينا اثناء عمله في الحقل ، انغرز في رجلة مسمار كبير صدئ نادى على جاره ، جلسا تحت ظل شجرة اللالوب الكبيرة ، انتزع جاره المسمار بطرف سكينه ، ضمد مكان الجرح بروث البقر الجاف ليتوقف تدفق الدم الاسود الذي انساب بغزارة ، ربطها له بخرقة قماش .
- الدم الفاسد مرق ، انت عادماك راجلا محظوظ ، قوم تابع موية جداولك ، على الطلاق (اشكدي) ما يقوم عليك .
صباح اليوم الثاني ، تورمت قدمه ، تحامل على نفسه ، ذهب للحقل ظل يتابع عمله وهو يعرج حتي العصر ، حمل له الليل الحمي و العرق الغزير لدرجة انه ولاول مرة منذ سنين لم يقرب (أم اولاده) في الصباح كانت رجله قد انتفخت حتىالركبة اشتد الالم لدرجة ان صرير اضراسه كان بسمع خارج الغرفة ،ارسل اهله في طلب البصير (الشيخ عطا المنان ) والعمدة نطق البصير بالشهادة واشار براسه عدة اشارات تدل على الاسي وخيبةالامل وقال :
- الرجل دي لازم تنقطع كان ما قطعناها الورم ده لي بكره حيملا الجسم كله .
وهم ينظرون ناحية العمدة سال اخوه ود عمسيب وابناء عمومته :
- مافي دواء تاني ،ياشيخ عطا المنان ، الرجل اليمين ماساهلة !
-ما تضيعوا وقتكم ساكت ، داك دكتور الحكومة في الدامر ،وياكم الواصلنه بعد ثلاث ايام وكان وصلتو ياهو القاطع الرجل ، الرجل دي خلاص مافي منها فايدة ، احسن ماتاتموا اولاد الراجل . واضاف بكلام الواثق من نفسه :
-انا قلت تنقطع خلاص لازم تنقطع .
اتخذ القرار وحده ، دون ان ينظر حتي ناحية العمدة ، دخل على ود عمسيب في الغرفة الرطبة المظلمة ،ناداه بصوت جهوري يبدو مضحكا مع كبر سنه وجسده الضامر :
-ود عمسيب العافية من الله ... ولا شنو ؟
-كلامك في محله .
-عاد يا اخوي الورم ده ماشي ،والرجل دي كان ما قطعناها بكره ياهو اللاحق جتتك كلها ، العافية من الله ، والله يخليك لاولادك .
فتح ود عمسيب عينيه المحمرتين من الالم ، وهو يتصبب عرقا اتكا بكوعه على العنقريب .
-اقطعوها .
امر الشيخ عطا المنان برطل من (الودك) يسخن لدرجة الغليان و(بنبر ) كبير ،امر ان تحفر حفرة كبيرة في منتصف ساحة المنزل وضع (البنبر) بقربها هرول الي منزله عاد يحمل سكينا كبيرا وضع السكين بين الجمر .
ذهب الرجال لاحضار ود عمسيب رفض ان يتكئ على ذراع احد تحامل على نفسه مشي دون ان يعرج حتي ساحة المنزل يضع رجلة المتورمة بثبات على الارض ، ربط (شاله) بقوة حول وسطه لف عمامته (الكرب) البيضاء بعناية بقميقه البوبلين الابيض (الذي يلبسه في المناسبات فقط) يبدو مثل عريس في ليلة زفافه ، ود عمسيب رجل وسيم مربوع القامة ، ضربة واحدة (بالطورية) من يديه القويتين القصيرتين، تحفر اخدودا عميقا في احشاء تربةالحقل .
تجمعت النساء حول زوجته في المطبخ نائحات ، ولي الصباح تشد الشمس الرحال نحو منتصف السماء وشوشت اشجار النخيل -العالية- للقرية في اذانها ، ربما اسرت للريح بالامر لتحمله للقري المجاورة ، لم تشا والدته و(عماته) ان يتركنه يواجه هذه المحنه وحده ، تحلقن حوله صامتات ، صارمات الوجوه ، زمت كل واحدة منهن شفتيها حتي اصبح فمها في استدارة الخاتم ، تجاعيدهن زادت وجوههن صرامة وجفافا .
تمت العملية ببساطة ، فصل شيخ عطا المنان ساق ود عمسيب من عند الركبة ، بالسكين التي احمر نصلها ، قطعها قعطا متساويا ، مثلما يقطع جزار متمرس ورك عجل سمين ، سكب الودك الحار حتي توقف تدفق الدماء مكان البتر .
كل ذلك وود عمسيب لم يرف له جفن ، لم يهتز ولم يقل آه ، بل ان وجهه كان طبيعيا فقط هطل العرق بغزارة من جبهته يكاد يسمع دقات قلوب الرجال المتحلقين حوله ، اجهش احدهم بالبكاء فجاة ، صوت هامس مرتجف يقول :
-استغفر الله ... استغفر الله ... استغفر الله
كانت والدته تقف صامته ترقب سلوك ابنها البطولي ، ابنها سليل المك نمر ، لم تتمالك نفسها نسيت الموقف الصعب ، تذكرت امجاد اجدادها هذا هو احد احفادهم ، ابنها بالتحديد ، تقطع رجله دون ان يرف له جفن ، ولم تخرج من فمه حتي لفظة ...آخ
وذلك نهارا جهارا ووسط حشد من الرجال والنساء ، انفعلت ، انطلقت تزغرد ، وقفت فوقه تماما حتي غطاها ظلها ، زغردت زغرودة طويلة ، جلجلت زغاريدها وهي تهرول في الساحة ، تدور حوله انتقلت العدوي لاخواتها ، والنساء الحاضرات زغردن كما لم تزغر د امهاتهن من قبل ، في المطبخ كان لزوجته زمام المبادرة ردت على امه بزغرودة طويلة ، تلتها صديقاتها وجاراتها ، دامت الزغاريد لدقائق ،زغاريد لم تسمع مثلها القرية من قبل في اي فرح جعلت ود همسيب يتذكر في لمحة سريعة ايام صباه وفتوته ، ايام كان (يعرض) امام الدلوكه حتي يبتل قميصه بالعرق
كان جالسا علىالبنبر الكبير وسط الساحة يشعر بالفعل انه مثل اي ملك من ملوك الجعليين ، لف الرجال الساق المبتورة بقطعة قماش ، اسرعوا بدفنها في المقابر القريبة ، كان جالسا دون حراك انفاسه تتلاحق مهرجان الزغاريد اثر عليه كثيرا وهو يقاوم حالة الاغماء التي بدات تغشاه رويدا رويدا صاح في شيخ عطاالمنان مناديا :
-على بالطلاق اكان ما قطعتوا التانية ، حلف يمين ياني الماقايم من هنا كان ماقطعطوها ،انا اخوك يا التومة ، آفو ، آفو
والله كان ماقطعتوها ياني الماقايم
مال بالبنبر قليلا حتى توازي رجله السليمة الحفرة التي امتلات على اخرها دما متخثرا اسودا .